إعادة تصوّر الدعم الموجّه إلى قطاع الثقافة والفنون في الفضاء المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

“الثقافة في الفضاء المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” هو برنامج مدّته 18 شهراً أُطلق في خريف 2024، يجمع اثنتي عشرة مؤسسة ثقافية وفنية من تونس والمغرب والأردن ومصر ولبنان، ويدعمها في استكشاف سبل المساهمة في بناء مجال عمل أكثر سلامة واستدامة، عبر تبني أدوار طويلة الأمد تقوم على الرعاية والتواصل ودعم المجال ككلّ.

في جوهره، يدعو البرنامج إلى تغيير منظورنا: من التركيز على استمرارية المؤسسات إلى دعم صحة المجال بأكمله؛ ومن الاستجابة للأزمات المتواصلة إلى تعزيز الظروف التي تحفّز الخيال والتعاون وتمهّد الطريق للتغيير.

في ظل تقلّص الفضاءات المدنية وتزايد الضغوط، تقدّم هذه الرحلة مساحة للتوقف والتأمل وطرح أسئلة جوهرية: كيف يمكننا تعزيز أدوارنا الداعمة للمجال في الفضاء المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ وكيف يمكننا، كممارسين، أن نساهم معاً في بناء فضاء مدني أكثر صحة وازدهاراً للثقافة والفنون؟

٥ دول / ١٢ مؤسسة / ١٨ شهر

لم هذا, ولماذا الآن؟

قد يكون سيناريو اختيار بقاء المؤسسة واستمراريتها على حساب أهدافها وطموحاتها مألوفاً لدى العديد من المؤسسات غير الربحية حول العالم، إذ يفرضه غالباً انعدام الاستقرار المالي والضغوط السياسية. لكن في بعض السياقات، لا يقتصر الأمر على كونه مرحلة مؤقتة، بل يتحوّل إلى واقع دائم يزداد قسوةً مع مرور الوقت، حيث تصبح ندرة الموارد والرقابة والأطر القانونية المقيّدة هي الظروف “الطبيعية” لعمل هذه المؤسسات.

في مناطق عدّة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اعتادت المؤسسات الفنية والثقافية العاملة في الفضاء المدني على التعامل مع هذا الواقع المعقّد. فسنوات من القمع السياسي وانعدام الاستقرار المالي وتقلّص الفضاء المدني، فرضت واقعاً تتقدّم فيه الاحتياجات الملحّة على الأهداف طويلة المدى. يستمر النشاط الثقافي، لكن غالباً بدون متّسع للتأمل أو التكيّف، أو حتى للتخيل والعمل نحو مستقبل أفضل، أو لإفساح المجال للابتكار والإبداع.

لذا، حان الوقت لكسر هذه الحلقة ودعم الانتقال نحو مستقبل أكثر إيجابية واستدامة. ويتطلب هذا التحوّل ممارسة الخيال، باعتباره جوهر الفنون والثقافة. وعليه، انطلق برنامج “الثقافة في الفضاء المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في خريف 2024.

رحلة التعلّم في البرنامج

صُمّم هذا البرنامج ليكون مساحة يتقاطع فيها البحث المفاهيمي مع التعلّم التطبيقي. أدركنا من خلال حواراتنا أن قوة التعلّم وفهم الواقع تؤتي ثمارها عندما تحدث على مستويات متعدّدة. فخلال هذه الرحلة، ركّزنا على ثلاثة مستويات مترابطة للتعلّم: الفرد والمؤسسة والمجال بأكمله.

كيف يمكن لمؤسستي أن تساهم في دعم المجال ككلّ، وما هي مساهمتي الشخصية في تحقيق ذلك؟

كيف يبدو شكل مجال العمل في سياق عملي حالياً؟ وما هي ممارسات الدعم المطلوبة لتعزيز عافيته ودفعه نحو مستقبل أفضل؟

ما الممارسات التعاونية البديلة التي يمكنها أن تعزّز المرونة والتواصل داخل هذا المجال؟

أدوات التبادل والدعم بين الأقران

تتيح المساحات التي يقودها الأقران، مثل "ورش الحالات العملية"، مجالاً للمشاركين لمشاركة التحديات وتبادل وجهات النظر ودعم المسارات التعلمية لبعضهم البعض. كما تتعزّز هذه التبادلات عبر استخدام أدوات مصممة للتأمل وتوجيه الحوارات بفعالية.

التوثيق كأداة للتأمل

يُعتمد التوثيق كوسيلة للتأمل، لا كمخرج رسمي فحسب. نخلق عمداً لحظات للتريّث والاستعداد لما قد يحدث.

الهدف أولاً

نشجع المشاركين على وضع الهدف في صلب عملهم، عوضاً عن التركيز على الدور أو الهوية المؤسسية فقط. هذا يدعونا إلى إعادة بلورة أفكارنا ويفتح آفاقاً جديدة للمساهمة بشكل هادف في المجال الأوسع.

التجريب الهادف

تجرّب كل مؤسسة دوراً أو فكرة داعمة لمجال العمل في نطاق عملها الخاص لكي تتعلّم كيف يمكنها أن تدعم مجال العمل بفعالية.

التعلم من خلال الإستعارات

يرتكز البرنامج على مقاربة أساسية تهدف إلى إتاحة مساحات للخيال تمكّن المشاركين من التأمل والاستماع بعيداً عن ضغوط الأزمات المحيطة. يمكننا استغلال هذه اللحظات لاستكشاف أدوار جديدة أو ناشئة تسهم في استدامة منظومة الفاعلين في مواجهة الهياكل السائدة. ومن هنا، ظهرت استعارة “المنظومة الحيوية البحرية” لتقدّم لغة مشتركة حول الترابط والتنوّع والهشاشة والتجدّد. وفي هذا السياق، برزت نجمة البحر كرمز إرشادي يمثل المرونة واللامركزية والقدرة على التجدّد. حتى الآن، أسفرت الحوارات التعلّمية عن مسارات عدّة تُرشد تطوّر البرنامج وتجربته.

 

تم رسم هذه الصورة المرئية من أداة استكشاف بيئة مجال العمل لدينا، والتي تساعد المؤسسات على رؤية واستشعار المجال الذي هي جزء منه.

تم تطوير هذا الرسم التوضيحي قبل مسيرة تعلّم البرنامج، فرح مكي، التي تُصمم وتُيسر الصيغ المختلفة للبرنامج.

“صار مسار”

منذ انطلاق هذه الرحلة، كان الهدف الأساسي أن يصبح هذا البرنامج بإدارة مؤسسة واحدة أو أكثر تعمل في المنطقة. فهذا ليس مشروعاً يُدار عن بُعد، بل عملية يشارك في تشكيلها أبناء المنطقة ولأجلها، على أمل أن تستمر وتتطور خارج إطارها الحالي. وقد كانت اللغة جوهر هذه الرحلة، إذ غالباً ما توقفنا للتفكير في المصطلحات التي نتداولها، والبحث عن كلمات تحمل معنى حقيقياً في سياقنا، وتلامس الروح العربية في التفكير والشعور، بدلاً من أن تكون مجرّد ترجمات حرفية.

هكذا وُلد الاسم العربي للبرنامج.

لفترة طويلة، بقي الاسم مفتوحاً لتأويلات عدّة، فلم نشعر بضرورة الاستعجال، خاصّة في ظل التحديات والتقلّبات المحيطة. وفي إحدى جلساتنا، طرح أحدهم عبارة “صار ما صار”، وهو تعبير شائع في المنطقة يُستخدم عند حدوث أمر غير متوقع أو غير مرغوب فيه، ويحمل أحياناً معنى التسليم أو الاستسلام الهادئ للواقع.

لكننا لم نكتفِ بذلك، بل تساءلنا: ماذا لو حوّلنا هذا الاستسلام إلى غاية ورؤية؟

ومن هنا وُلد الاسم الجديد: “صار مسار”، تلاعب بالكلمات يحوّل المعنى من “ما حدث قد حدث” إلى “ما حدث أصبح مساراً”.

قد نستمر في تطوير هذا الاسم، لكنه يبدو مناسباً حالياً. إنه اسم اخترناه معاً، يحتضن التحديات التي مررنا بها، وفي الوقت نفسه يعكس المسار الذي نختاره للمضي قدماً.

Scroll to Top